الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ولكن شُبّهَ لَهُمْ} رُوي أن رهطًا من اليهود سبُّوه عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه سيرفعه إلى السماء فقال لأصحابه: أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه شبَهي فيُقتلَ ويصْلَبَ ويدخُلَ الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فألقَى الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب، وقيل: كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال: أنا أدلُّكم عليه فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه وقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام. وقيل: إن ططيانوسَ اليهوديَّ دخل بيتًا كان هو فيه فلم يجده وألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل، وأمثالُ هذه الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ، وقيل: إن اليهودَ لما همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا إنسانًا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه عليه السلام لهم إلا قليلًا، وشُبّه مسندٌ إلى الجار والمجرور كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام والمقتولِ، أو في الأمر على قول من قال: لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ، أو إلى ضمير المقتولِ لدِلالة {إِنَّا قَتَلْنَا} على أن ثمَّ مقتولًا.{وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ} أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهودِ: إنه كان كاذبًا فقتلناه حتمًا، وتردد آخرون فقال بعضُهم: إن كان عيسى فأين صاحبُنا، وقال بعضُهم: الوجهُ وجهُ عيسى والبدنُ بدنُ صاحبِنا، وقال مَنْ سمِع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء: إن رُفع إلى السماء، وقال قوم: صُلب الناسوتُ وصعِدَ اللاهوت (وقد مر) {لَفِى شَكّ مّنْهُ} لفي تردد، والشكُ كما يطلق على ما لم يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} استثناءٌ منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن، ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل والعلمُ بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفسُ جزمًا كان أو غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي قتلًا يقينًا كما زعموا بقولهم: إنا قتلنا المسيحَ، وقيل: معناه وما علموه يقينًا كما في قول من قال:
من قولهم: قتلتُ الشيءَ علمًا ونحَرتُه علمًا إذا تَبالغَ علمُك فيه، وفيه تهكمٌ بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية.{بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ردٌّ وإنكارٌ لزعمهم قتلَه وإثباتٌ لرفعه {وَكَانَ الله عَزِيزًا} لا يغالَب فيما يريده {حَكِيمًا} في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولًا أوليًا. اهـ. .التفسير المأثور: قال السيوطي:أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله فائتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقِّك، فأنزل الله: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء} إلى {وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا}.وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله، من الله إلى فلان أنك رسول الله، وإلى فلان أنك رسول الله، فأنزل الله: {يسألك أهل الكتاب...} الآية.وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: قالت اليهود: إن كنت صادقًا أنك رسول الله، فآتنا كتابًا مكتوبًا من السماء كما جاء به موسى.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {أن تنزل عليهم كتابًا من السماء} أي كتابًا خاصة. وفي قوله: {جهرة} أي عيانًا.وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فقالوا أرنا الله جهرة} قال: إنهم إذا رأوه إنما قالوا جهرة أرنا الله، قال: هو مقدم ومؤخر.وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن عمر بن الخطاب. أنه قرأ {فأخذتهم الصعقة}.وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فأخذتهم الصاعقة} قال: الموت، أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله أن يميتهم ثم بعثهم.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {رفعنا فوقهم الطور} قال: جبل كانوا في أصله، فرفعه الله فجعله فوقهم كأنه ظلة، فقال: لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فقالوا: نأخذه وأمسكه الله عنهم.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا} قال: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} قال: أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحلت لهم ما خلا ذلك، وفي قوله: {فبما نقضهم} يقول: فبنقضهم ميثاقهم {وقولهم قلوبنا غلف} أي لا نفقة {بل طبع الله عليها} يقول: لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسوله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي عليهم، طبع الله على قلوبهم ولعنهم حين فعلوا ذلك.وأخرج البزار والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطابع معلق بقائمة العرش، فإذا انتهكت الحرمة، وعمل بالمعاصي، واجترئ على الله، بعث الله الطابع فطبع على قلبه، فلا يقبل بعد ذلك شيئًا.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا} قال: رموها بالزنا.وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن علي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك من عيسى مثلًا أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له». والله تعالى أعلم.أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت إثنا عشر رجلًا من الحواريين، فخرج عليهم من غير البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي إثني عشر مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي، فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا. فقال: أنت ذاك، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، وكفر به بعضهم إثني عشر مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، وقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، فهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل} يعني الطائفة التي آمنت في زمن عيسى، وكفرت الطائفة التي كفرت في زمن عيسى {فأيدنا الذين آمنوا} في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وقولهم إنا قتلنا المسيح...} الآية. قال: أولئك أعداء الله اليهود، افتخروا بقتل عيسى، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه، وذكر لنا أنه قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول؟ قال رجل من أصحابه: أنا يا نبي الله، فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {شُبِّه لهم} قال: صلبوا رجلًا غير عيسى شبه بعيسى يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيًا.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {وما قتلوه يقينًا} قال: يعني لم يقتلوا ظنهم يقينًا.وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: ما قتلوا ظنهم يقينًا.وأخرج ابن جرير مثله، عن جويبر والسدي.وأخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وابن عساكر من طريق ثابت البناني عن أبي رافع قال: رُفِع عيسى ابن مريم وعليه مدرعة، وخُفَّا راع، وحذافة يخذف بها الطير.وأخرج أحمد في الزهد وأبو نعيم وابن عساكر من طريق ثابت البناني عن أبي العالية قال: ما ترك عيسى بن مريم حين رفع إلا مدرعة صوف، وخفَّيْ راع، وقذافة يقذف بها الطير.وأخرج ابن عساكر عن عبد الجبار بن عبد الله بن سليمان قال: أقبل عيسى ابن مريم على أصحابه ليلة رفع فقال لهم: لا تأكلوا بكتاب الله أجرًا فانكم إن لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر الحجر منها خير من الدنيا وما فيها. قال عبد الجبار: وهي المقاعد التي ذكر الله في القرآن {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 55] ورفع عليه السلام.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن وهب بن منبه قال: إن عيسى لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعامًا، فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليلة عَشَّاهُم وقام يحدثهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضيهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارموه فقال: ألا من رد عليَّ شيئًا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه، فأقروه حتى فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء أن يؤخِّر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله..! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها؟ قالوا: والله ما ندري ما كنا لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه، ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من أصحابه. فجحد وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه، ثم أخذه آخرون كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلهم عليه وكان شبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحيي الميت، وتبرئ المجنون، أفلا تخلِّص نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شُبِّه لهم، فمكث سبعًا.ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟! قالتا عليك. قال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبِّه لهم، فأمروا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فألقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وقعد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل قال: لو تاب تاب الله عليه، ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحنا؟ فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة فليتدبرهم وليدعهم.وأخرج ابن المنذر عن وهب بن منبه قال: إن عيسى عليه السلام كان سياحًا فمر على امرأة تستقي، فقال: اسقيني من مائك الذي من شرب منه مات وأسقيك من مائي الذي من شرب منه حيي؟ قال: وصادف امرأة حكيمة فقالت له: أما تكتفي بمائك الذي من شرب منه حيي عن مائي الذي من شرب منه مات؟ قال: إن ماءك عاجل ومائي آجل. قالت: لعلك هذا الرجل الذي يقال له عيسى ابن مريم؟ قال: فإني أنا هو، وأنا أدعوك إلى عبادة الله وترك ما تعبدين من دون الله عز وجل. قالت: فأتني على ما تقول ببرهان؟ قال: برهان ذلك أن ترجعي إلى زوجك فيطلقك. قالت: إن في هذا لآية بينة، ما في بني إسرائيل امرأة أكرم على زوجها مني، ولئن كان كما تقول إني لأعرف أنك صادق. قال: فرجعت إلى زوجها، وزوجها شاب غيور فقال: ما بَطُؤ بِكِ؟ قالت: مر علي رجل فأرادت أن تخبره عن عيسى، فاحتملته الغيرة فطلقها، فقالت: لقد صدقني صاحبي.
|